هاتي صلاح الدين ثانيةً فينا

هذه الكلمة ارتجلها العلامة أبو الحسن الندوي في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، يبدي فيها مشاعر المسلمين -لا سيما في الهند- إزاء قضية فلسطين، أكد فيها العلامة على إسلاميّة القضية الفلسطينية في المقام الأول، وضرورة اتّباع المنهج الإسلامي لحلها.

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:

‏فلي الشرف العظيم أن أتكلم باسم هذا المجلس الموقر في مثل هذا الموقف الدقيق الحساس باسم المسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها، وباسم مئات الملايين في شبه القارة الهندية، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على عالمية القضية الفلسطينية، وإنسانيتها، وإسلاميتها، إنني في هذه الساعة المتأخرة من الليل لا أريد أن أطيل، وأن أشق عليكم، إنما أقتصر على دعاء في هذه الساعة المباركة الميمونة، وفي رحاب البيت، أقتصر على دعاء واحد، وأرجو الله أن يتقبل هذا الدعاء في هذه الساعة المباركة في ليلة الجمعة المباركة، وهو أن يقيض الله لفلسطين، بل للمسلمين جميعا، بل للإسلام صلاح الدين الأيوبي الثاني، وإذا كانت حكمة الله تبارك وتعالى اقتضت أن تختار من بين الأكراد كرديّا يتوارى نسبه بعد ثلاث أو أربع وسائط في ظلمات الجاهلية، وقد أسلم أباه قريبا، فلم يكن عريقًا في الإسلام، فكيف لا تقتضي حكمة الله ورحمته أن تختار عربيًا، ينحدر من أصول عربية إسلامية عريقة في القدم. كيف لا تقتضي حكمة الله أن تختار من بين العرب ومن بين المسلمين صلاح الدين الأيوبي الثاني. إنني أخاطب الأمة العربية بلسان خير الدين الزركلي الشاعر العربي، إن الحل الوحيد لقضية فلسطين أن يبرز صلاح الدين على مسرح القضية الفلسطينية، وعلى مسرح الجهاد الإسلامي مرة ثانية، يقول الزركلي:

هاتي صلاح الدين ثانية فينا *** وجددي حطين أو شبه حطينا

هاتي صلاح الدين -أيتها الأمة العربية المسلمة – ثانية فينا، وجددي حطين أو شبه حطينا.

ماذا كان سر انتصار صلاح الدين الأيوبي الانتصار الباهر الذي حيّر العالم، وغيّر مجرى التاريخ؟ إنما السرّ أنه كان مسلما مؤمن محمديا لا يعرف غير لغة القرآن، ولا يعرف غير لغة الإيمان، ولا يعرف غير لغة الحنان، والمسلمون ما زالوا ولا يزالون.

اكتبوا عني أيّها الكتّاب بقلم عريض! وسجلوه أيها المستمعون الكرام: إن المسلمين إلى هذا الوقت -وإن كانت المادية الرعناء، والتربية العصرية قد فعلتا فعلتهما- فهم لا يفهمون غير لغة القرآن. إن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، مهما تعددت لغاتهم، ومهما فاق ذكاؤهم، ومهما فاقت ألمعيتهم وعبقريتهم، إلى الآن لا يفهمون إلا لغة محمد عليه الصلاة والسلام الذي آمنوا به كنبيّ خالد، وكرافعٍ علم الجهاد المقدس، إنهم لا يفهمون غير لغة القرآن مهما أُقحمت عليهم اللغات، ومهما فُرضت عليهم الثقافات، ومهما تنوعت في بلادهم الحضارات، إنهم لا يفهمون، ولن يفهموا، وإلى أن يرث الله هذه الأرض ومن عليها لا يفهمون إلا لغة القرآن.

خاطبوا المسلمين بلغة القرآن أيها الإخوان لا بلغة السياسة! أثيروا فيهم الحنان، والإيمان، بكلمة الجهاد، بكلمة الحنين إلى الشهادة، إنهم لا يزالون يحسنون فهم هذه اللغة، إنما كان سر سيطرة صلاح الدين على القلوب والأرواح في أنه فهم هذا السر، وفطن لهذه النقطة. إن المسلمين لا يندفعون إلا بدافع الجهاد، فجمع تحت رايته الإيمانية أشتاتأ من القيادات، وضروبًا وأنواعًا من الشعوب الإسلامية، يستغرب الأوربيون الغربيون، كيف استطاع صلاح الدين الأيوبي أن يوحد كلمة العالم الإسلامي الممزّق المتشتت، المنقسم على نفسه، وكيف استطاع أن يجمع هذا العالم المترامي الذي تعدت عناصره، وتعدت ثقافاته، وتعددت مذاهبه الفقهية، كيف استطاع أن يوحد العالم الإسلامي في هذه الفترة الحالكة العصيبة تحت راية محمّد عليه الصلاة والسلام، ذلك فقط، لأنه رفع راية محمّد عليه الصلاة والسلام، لم يرفع راية القومية العربية.

اسمحوا لي أن أقول: أنا هندي الأصل، أنا هندي الثقافة، أنا رجل ولدت ونشأت في الهند، ولكن أؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام، وأؤمن بالقرآن. إن هنالك قلوبا تُعدّ بالملايين، تهفو، وتصبو إليكم، وتستهين في سبيلكم بأجسامها وحياتها وسلامتها.

‏إن مذبحة كبيرة وقعت في الهند في أحمد آباد في مدة قريبة، وماذا كان السبب؟ ذلك لأجل التجمع الإسلامي الكبير الذي حصل تأييدا لقضية فلسطين، إنما وقعت هذه المجزرة، ووقع هذا الاضطراب الطائفي الهائل لأن المسلمين في أحمد آباد تجمعوا على بعد الدار، وحيلولة البحار، وعدم معرفتهم للغة العرب، تجمّعوا هذا التجمع الخالد التاريخي ليدافعوا عن قضية فلسطين، وذلك برهان ساطع على أن هنالك قلوبا مخلصة، لا يعرف مدى إخلاصها إلا الله تبارك وتعالى. قلوب مؤمنة صادقة، لا تعرف لغة السياسة، ولا تعرف اللباقة، إنما تعرف الإيمان، إنما تعرف الحنان، إنما تعرف لغة القرآن، فأنتم تملكون ثروة لا تملكها أمريكا، ولا تملكها روسيا، تلك ثروة الإيمان، تلك ثروة الإيمان الدافق، تلك قوة الإيمان التي استطاعت أن تُظهر العالم الإسلامي كله، وتكوّن حضارة، وتكوّن دولة من أكبر الدول والإمبراطوريات، وهي تستطيع والحمد لله في هذا الوقت، أقول هذا في رحاب البيت العتيق، إن هذه الثروة موجودة. ولكنها تحتاج إلى إثارة، تحتاج إلى تحريك، تحريك صادق مؤمن.

‏وفيكم الأمل، إنني أرجو الله أن يستخدمكم في هذه القضية، وأن يجعل منكم صلاح الدين الأيوبي الآخر، وليس الأخير، والإسلام كمثل غيث لا يدرى أوله خيرٌ أم آخره كما جاء في الحديث النبوي الشريف، وإني أقول لك أيها الأخ الكريم! أيها الزعيم! أنا أتبرك بتراب نعل الفرسان في ساحة الجهاد، وأفضّله على العبير، وعلى كثير من العطور، إنني أقول لكم: اذكروا قول الله تبارك وتعالى: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ) [النساء: 104]،‏ هذه ميزتكم، اليهود فقدوا كل شيء، وقطعوا كل خيط كان يربطهم الله، وبالصحف السماوية، أصبحوا شعبا ماديا بحتا، لا يُعنون إلا بسيطرتهم على العالم، ليست أمامهم غاية نبيلة ولا غير نبيلة، إنما هو شعب عنصري يؤمن بالعنصرية، والله تبارك وتعالى لا ينظر إلى العنصري، إن الله لا ينظر إلى وجوهكم وأجسادكم، إنه ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، فأنتم تملكون ولا تزالون تملكون هذه الثروة، وترجون من الله‏ ‏ما لا يرجون، استمدوا هذه القوة وأثيروا هذا الدفين الكامن. هذا الكنز الخفي المطمور الذي لا يزال في صدور زملائكم، إنكم -كمسلمين مجاهدين- ترجون من الله ما لا يرجو اليهود، فلماذا تهنون، والله يقول: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: ‎139‏].

هذه كلمة أخ لكم في الله، أخ لكم في الدين، لا يربطه بكم إلا الخيط الإيماني الرباني النوراني، الذي انبثق من هذا البلد، ولا يزال لامعا، ولا يزال بازغا، ولا يزال منيرا للقلوب والنفوس، يبدد الظلمات، ظلمات الجاهلية، ظلمات المادية والظلمات الأمريكية، والظلمات السوفييتية.

إننا نحن المسلمين -والحمد لله- أغنى من كل أمة وأقوى من كل أمة، وتاريخنا طاهر، وتاريخنا نزيه، لم تتلوث أيدينا بالدماء البريئة أبدًا. فكن على ثقة أيها الأخ الكريم! أيها المناضل، إن وراءك جيشًا عرمرمًا من المسلمين، من القلوب المؤمنة، من الأرواح السعيدة، من الذين يستهينون بحياتهم، ويستهينون بكرامتهم في سبيل الله، فهل جربتموهم؟ لا. والله إلى الآن لم يسنح لكم أن تجربوهم، لا تزال هذه الأرض بكرا، ولا تزال هذه التجربة جديدة، جرب أيها الأخ هذه الأمة التي ملأت العالم كله، وهي وراءكم وأمامكم إن شاء الله، تأخذون منها ما هو أغلى، وأعلى، وأثمن، وأعز من كل سلاح تأخذه من أي قوة كبيرة.

هذه كلمتي، وأنا قد أسهبت فيها واسترسلت أكثر مما قدرت، وما زورت الكلام وما ادخرت، ولكن هو الدافع الإيماني،‏ العرق العربي الإسلامي الذي ينبض، ويثور، والذي يملك مشاعري، الذي يدفعني إلى أن أقول هذه الكلمة المرتجلة، وأتركها مدوية مجلجلة في رحاب العالم كله.

وتقبلوا مني أطيب التحيات، وأصدق التمنيات.