الغباء الصهيوني جندي من جنود الحق!

رِحاب

 

في الطب النفسي، تُعرّف السايكوباثية بأنها “اضطراب في الشخصية يتميز صاحبه بالعديد من الصفات التي تمثل قمة التطرف في ارتكاب الجرائم والموبقات، مع الاعتداء على الآخرين والكذب والسرقة، والعدوانية ضد المجتمع (anti-social)، والغطرسة والخيانة والتلاعب بالآخرين، مع افتقاد الشعور بالتعاطف مع ضحاياه، وعدم الشعور بالذنب أو الندم على  أفعاله الخاطئة، وهو أمر غالبا ما يقود إلى سلوك إجرامي”.

إن هذا التعريف يوصّف الأفراد. ولكن ماذا عن السايكوباثية الجَمعيّة؟ ماذا عن السايكوباثية التي يشكّل فيها مجموعة من المعتلين نفسياً مجتمعاً أو دولة؟! تبادر هذا السؤال إلى ذهني حينما وقع نظري على مربع التقويم؛ إنه اليوم الثلاثون بعد المائة منذ بدء العدوان الصهيوني على قطاع غزة!

مائة وثلاثون يوماً من ارتكاب المجازر والإبادات الجماعية البشعة كأشد ما تكون البشاعة؛ سواء بقصف منازل العائلات على رؤوس ساكنيها، أو بقصف المستشفيات أو المدارس أو المساجد أو أماكن تجمع “النازحين!!”، بل بقصف كل ما هو متحرّك على الأرض!! والجميع في مرمى أهدافهم؛ الرضع والأطفال والشيوخ والنساء والأطباء والصحفيين… الخ

مائة وثلاثون يوماً من التجويع والإعطاش ومنع المساعدات الإغاثية!! بل ونصب الفخاخ الغذائية للصغار الجائعين ليسهل قتلهم قنصاً وقتل من يحاول إسعافهم!!

مائة وثلاثون يوماً من شلالات الدم المسلم الفلسطيني المسفوح؛ لم تُشبِع الغريزة الإجرامية الصهيونية بعد!

 

إذن، هذا هو الإرهاب الذي يُرحّب به، ويُصفّق له، ويُبارك، ويُغذّى، ويُدعم، ويُشجّع على ارتكاب المزيد، بل ويُسمى سلاماً، ويُكرّم في المحافل الدولية بجوائز “السلام”!!

ولا أظنُ أنه بعد كل هذا الظلم الذي يجري أمام ناظرَي العالمِين اليوم، بحق شعب سُرِقت أرضه وقُتِّل -ولا يزال يُقتّل- أبناؤه؛ بقي لذي عينينِ بقيةً من أمل في أن هذا العالم الذي يتعاطى مع قضايا المسلمين بصَلَف وتعجرف وانحياز دائم للطرف الآخر -بغض النظر عن اسمه أو موقعه الجغرافي-؛ سيُنصفهُ يوماً أو سيرُدّ له حقّه المغتصب!

ولأننا -نحن المسلمون- نوقن بأنْ ليس هناك شرٌ محض، وأنّ بين ثنايا المحنة بارقة من أمل، وأن بين السطور ثمّة رسائل ربانية ترْبِتُ على قلوبنا فنطمئن؛ أخذتُ أتأمّلُ ما أمكنني أن أرى فيه لُطفَ الله في هذا الابتلاء، فإذ بأول هذه الألطاف الغامرة هو غباء المحتل الصهيوني؛ إذ حشد -بوحشيته وإجرامه- شعوب الأرض بشكل غير مسبوق، شرقاً وغرباً، باختلاف أجناسهم وأعراقهم ومعتقداتهم؛ دعماً للشعب الفلسطيني واستنكاراً للإرهاب الصهيوني. ما زاد في كراهية الشعوب ونفورهم ونبذهم لهذه النبتة الخبيثة التي زُرعت قهراً وعنوة في أرض طيبة.

والحقيقة لو أن المسلمون ظلوا طيلة أعمارهم يحاضرون في الندوات والمؤتمرات عن الإرهاب الصهيوني وعن حق الشعب الفلسطيني المغتصب ما كانوا لينجحوا في حشد الرأي العالمي لصالح القضية الفلسطينية كنجاح الاحتلال الصهيوني في تعرية نفسه بنفسه بالإجرام والدموية والإبادة الجماعية التي يرتكبها في غزة.

(وما يعلمُ جنود ربك إلا هو)، فسبحان الذي جعل الغباء جندي من جنود الحق، وسبحان من جعل حماقة عدونا تُقاتل في صفوفنا.

– ثاني هذه الألطاف: أنّها جمعت المسلمين على اختلاف مشاربهم ومدارسهم وألسنتهم وانتماءاتهم السياسية والحزبية، فكانت (غزة) هي الأرضية المشتركة الصلبة التي وحّدت المسلمين، والقضية التي اتفقت حولها أفكارهم وطافت حولها أفئدتهم، فتقزّمت أمامها كل المشتّتات والمُفرِّقات.

– ثالث هذه الألطاف: أنّ هذه الأحداث أحدثت صدمة وعي وإدراك لدى الكثيرين، وأحيَت القضية الفلسطينية من جديد، وأعادتها للمشهد الرئيسي على مسرح الحياة، فأجرت المياه الراكدة ونفخت فيها الحياة بعد موات دام لسنين. فأخذ الكثير يبحث ويتساءل عن أصل الصراع؛ كيف بدأ؟ لماذا فلسطين؟ من هم اليهود؟ من هم الصهاينة؟ من هم بنو إسرائيل؟ كيف نشأت الصهيونية؟.. إلى آخره من قافلة الأسئلة التي يجر أولها آخرها، ويضع الأمور في نصابها ويُعيدها إلى موازينها الصحيحة؛ فيمحو الأميّة حول هذه القضية العادلة من الأذهان.

– رابع هذه الألطاف: أنّ مشاهد الصبر والتصبّر والمصابرة والشجاعة والتجلّد التي يلقي الله عز وجل بنسائمها في قلوب أهل غزة؛ جعل كثير من غير المسلمين يتساءلون عن الحبل المتين الذي يربط قلوب هؤلاء من أن تنهار أو تنهدم، رغم جلل المصاب وعمقه؛ فكانت غزة هي القنطرة التي عرف بها هؤلاء الإسلام ثم اعتناقهم له. ومن يدري، قد يجعل الله هذا الداخل في الإسلام حديثاً خير من ينصره وينصر فلسطين وأهلها وليس غزة وحدها.

– خامس هذه الألطاف: أن هذا الثور الهائج المتعطش لسفك الدماء وحسب، الذي لم يتورّع عن أي سفالة حتى وإن كانت قتل الرُضّع الخُدّج في المستشفيات، والذي وضع جميع الأخلاق الحربية والمعاهدات الدولية والأعراف الإنسانية تحت قدمه؛ سينفخ في الجمر المتّقد الكامن تحت الرماد، وسيُلهب روح التضحية والفداء في أبناء الأمة الإسلامية بشكل عام وأبناء الشعب الفلسطيني بشكل خاص، إذ لم يدرك المسلمون كما أدركوا اليوم أن الأرض المسلوبة لا تستردّها المطالبات والخطابات في المحافل الدولية التي تدعم القتلة، بل لا تُسترَدّ الأرض ولا يُحمى العرض ولا تُحفظ الأرواح سوى بالجهاد.

وهنا لا يفوتني قول الشاعر:

 

على هَديِ الأُباةِ لكِ ارتيادُ *** وأنتِ لكلِّ مفخرةٍ مِدادُ

كَسَتكِ التَّضحياتُ لباسَ عزٍ *** كأنَّ ثراكِ طهَّرهُ الجهادُ

ألا يا غزَّةَ العبراتِ صبراً *** فصبرُ الواثبينَ هوَ الضِّمادُ

سينهضُ من ثَراكِ غدٌ بهيٌّ *** ويزأرُ في رُباكِ لنا شِدادُ

إذا كانَ الزَّمانُ زمانَ غدرٍ *** ففي أسيافنا ثأرٌ يشادُ

وفي أسيافنا وَجَعٌ وغيضٌ *** وليسُ يذودُ جمرتنا حِدادُ

إذا ما أيقظَ الطُّغيانُ فينا *** نفيراً فالملايينُ اتِّقادُ

 

ألطاف الله كثيرة وحكمته بالغة عميقة، وليس بالضرورة أن ندركها الآن أو أن ندركها أصلاً، فحكمة اللهِ تخفى بعض أحيانِ. ولكني في هذه العجالة أكتفي بما ذكرتُ آنفاً، وأترك للقارئ الكريم أن يتفكّر ويتدبر فيما خفي من ألطاف الله ونسائم رحماته في هذه المحنة.