عاش بطلا ومات بطلا

أبو فلاح

 

حياته عجيبة، تقشفه وزهده عن زهرة الدنيا عجيب، شموخه واعتزازه بعقيدته عجيب، رفضه الانحناء أمام كل ما تعرّض له من إغراءات وما وجّه إليه من ضغوط وتهديدات في كل مواقفه الحاسمة الصارمة، كل ذلك عجيب، لا نتحدث هنا عن رجل عادي من الرجال أو ثري من الأثرياء، أو أمير من الأمراء، وإنما نتحدث عن أميرٍ للمؤمنين، عن الملا عمر الذي لم تغيّره الدنيا وهي في كفه، عن رجل لم يكن فوق أوامره أمر، عن رجل لو شاء لاستطاع أن ينفق القناطير المقنطرة من الأموال في سبيل مشتهياته وملاذه الدنيوية من ألبسة فاخرة وسيارات فارهة ومساكن مزخرفة شأن بقية الملوك والزعماء، إن الزهد لا يعني أن لا تملك شيئا، إنما الزهد هو أن تملك كل شيء وتُعرض عنه طلبا للآخرة.

 

رفض الملا عمر في البداية أن يغادر مسكنه المتواضع، كان يقيم في بيت صغير مع أسرته ومجموعة من الجيران السابقين البسطاء، آثر أن يبقى مع جيرانه في بيت متواضع، تحمّل شظف العيش ومخاطر الحياة اليومية، لم يعش حياة أكثر أمنا وأكثر راحة من بقية المجاهدين أو المواطنين، كان يشارك بقية المجاهدين في المأكل والمشرب والمسكن، لم يشأ أن يبني قصرا محصنا لإمارة الدولة من ميزانية البلاد وهو حقه، لم يحدث في حياته فرق بعد أن تولى قيادة الشعب، إن مسلك حياته الذي اختاره جدير بأن تقف الإنسانية جمعاء عنده طويلا للعبرة، ولكن بعد أن تعرّض لمحاولة اغتيال فاشلة، انتقل إلى بيت جديد بني له من ميزانية الدولة.

كُرهه للأضواء وكاميرات الصحفيين عجيب، كل أمره عجاب، كان يرتدي ملابس عادية بسيطة، ولكن كان عظيما من العظماء استطاع أن يغير مجرى التاريخ، لم يكن مَلِكا ولكنه كان يقود المعارك ويدير البلاد، لم يدرس السياسة في كلية العلوم السياسية، ولكنه كان معلّما يعلم الملوكَ السياسةَ، السياسة النبوية الصادقة، كان معلّم العلماء، علّمهم معنى الإيمان بالله والتوكل عليه، معنى الصبر والصمود والفداء لأجل الدين، علّم الأمة حقيقة التضحية، التضحية بماذا؟ التضحية بالحكم والحكومة في سبيل الشريعة، في سبيل المبادئ، كان ينبوعا متدفقا من معاني العز والثبات والرجولة والصمود والفداء والإباء والكرامة، وعلّم الأمة الطموح والقوة والعزة والحرية والوقوف بعزة وكبرياء، وعلّمها رفضَ الذل والمهانة والاستعدادَ لبذل الغالي كلما احتاجت له الأمة، وعلّمها الانطلاق إلى الأمام مهما كانت الظروف، لقد وحّد الصفوف عندما كان الشعب والمعسكر في أحلك فترات تاريخ البلاد المعاصر، قاد الجهاد ضد الظلم والعدوان والفساد والفوضوية، أنقذ البلاد من المؤامرات التي حيكت لتحطيمها وتقسيمها. ولم يخلّف وراءه سوى سيرة عطرة ارتقى بها إلى مصاف الأبطال العظام والحكام الأتقياء الزاهدين الذين يندر مثالهم في التاريخ.

فقد في سبيل الشريعة وإنقاذ الوطن من براثن الاحتلال السوفياتي الغاشم إحدى حبيبتيه، وأمضى في سبيل إحلال السلام والقضاء على الفوضى في البلاد ثم طرد المحتلين زهرة شبابه، عاش بطلًا ومات أسطورة تروى في التاريخ، أعاد في قلب الأمة الروح والأمل بأن الأمة لا زالت تنجب من يفضّل قطرة من شرف الأمة على الدنيا بحذافيرها، هل تُقهَر أمة تنجب أمثال الملا عمر؟

 

ما أحوج الأمة في هذه الأيام لمثل هذا الرجل العملاق! لرجل يتولى سلطة الشعب ويعتبر نفسه خادما للشعب ليس إلا، لرجل يتولى قيادة الجنود بأسرهم، ولكنه يعيش في بيت متواضع ويجلس على الأرض ويجالس المواطنين البسطاء، ولا يملك سيارة فارهة ولا منزلا فخما ولا بستانا جميلا.

كلما ذكرنا هذا الإنسان العظيم هبت نسائم الإيمان على القلب. كلما ذكرناه ذكرنا معه عصر السلف الصالح، عصر الصحابة، حين سار نحو الأمام في عزة مؤمن وشموخ بطل ولم يبال بالأثقال ولم يضطرب للهموم والمتاعب، ولم تهزه الرياح العاتية ولم يهزه الخذلان، ولم يخوفه جبروت الطغاة الغزاة، فإن الله -الذي يؤمن بنصره ويتوكل عليه- أكبر وأقدر من هؤلاء الطغاة. كان يعرف بأن الحق سينتصر على الباطل حتما، يعرف ذلك يقينا بنصر الله، وهاهو الباطل قد حمل عصاه ليرحل.

بقي عابدا زاهدا في الدنيا حتى رحل إلى جوار ربه، وخلّد إسمه في صفحات التاريخ بأحرف من ذهب أو بأحرف من نور. عاش مرفوع الرأس ومات مرفوع الرأس، عاش بطلا ومات بطلا، فإنه أثبت بموته عجز الاستخبارات الأميركية، وأكد الفشل المخجل للاستخبارات الأمريكية، وأن قوة الاحتلال أضعف من عزم المجاهد وإرادته، وأن استخبارات الولايات المتحدة فاشلة. ترك العالَم بعد مماته في حيرة كيف استطاع أن يتوارى عن أعين العالَم كله ومخابراته، وحتى لم يستطع العالَم معرفة خبر وفاته إلا بعد عامين ونصف عام تقريبا، حاولوا قتله أو أسره وإذلاله ولكنه أذلهم بموته.

والعجيب أنه طوال هذه السنوات لم يخرج من البلاد وأصر على البقاء في أرضه رغم مرض الموت الذي كان يعاني منه، أصر على الموت في الداخل والدفن في الداخل، وعندما يصرّ المقرّبون على أن يخرج من البلاد للتداوي كان يقول قولته المشهورة: “لن أورّث المسلمين شيئا يخجلون منه في المستقبل”. مات -رحمه الله- وشرف الإسلام والمسلمين نصب عينيه ونصب ضميره، مات وطرد المحتلين وإقامة الشريعة كانتا نداءه الأخير، مات وكأنه لا زال على قيد الحياة فإن حياة الأبطال لا تنتهي بموتهم. إن الأهداف التي كان يعيش لها تحققت أو على وشك التحقق، وهي طرد المحتلين واستقلال البلاد وإقامة الشريعة. وها قد آن أوان القطاف، وآتت جهوده المباركة أكُلَها.