ذكريات وانطباعات عن أبطال فراه ١٧ (زوجة شهيد توزع الحلويات بعد استشهاد زوجها)

صارم محمود

 

الشهيد “إدريس” تقبله الله كان وردا في واحة الورود والأزهار، تزوّج وخلف من بعده رضيعًا وطفلتين، وكان طالب علمٍ لم يكمل دراسته بعد، كما كان هو الشابّ الوحيد الذي شارك في هذه الثورة العظيمة من بني قومه، ولذلك كان أمل المجاهدين في إشعال فتيل الجهاد في قومه، ويحيي هذه الفريضة العظيمة التي ماتت في وجدان قومه وأحاسيسهم، إلّا أنّ الله استأثره لنفسه، وقضى أن لّا يعيش إلا ثلاثا وعشرين ربيعا من عمره، لكن دم الشهيد كفيل بأن يحيي أهدافه بعد اسشهاده، ويحرّك سواكن القوم ويثير كوامنهم، فكم من دم شهيد أهريق فحرّك شعبًا، وحفّز جيلًا. وما أجمل ما قاله المفكر الكبير السيد قطب رحمه الله: “وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته و دعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفّز الألوف إلى الأعمال الكبيرة بخطبة مثل خطبتها الأخيرة التي يكتبها بدمه فتبقى حافزا محرّكا للأبناء والأجيال وربما كانت حافزا محرّكا لخطى التاريخ كلّه مدى أجيال”.

كان الشهيد إدريس معنا في الحرب التي نشبت على مديرية “أناردره” بمحافظة “فراه” (التي مرّ ذكرها في الحلقة الماضية) فأصابته طلقة في رأسه في كمين العدوّ، فسقط شهيدا بإذن الله وسط المعركة.

وبعد أيام من شهادته، ذهبنا برفقة العلماء والمجاهدين إلى بيت الشهيد لأداء التعزية، فبدأ أبو الشهيد يتجاذب معنا أطراف الحديث، فتكلّم عن الشهادة، وتكلّم عن الشهداء، وتكلّم عن ابنه الشهيد، وبدأ يعدّد أوصافه الكريمة إلى أن فاضت مدامعه، ثمّ أضاف: رأيت البارحة في المنام الشيخ الشهيد “منصور آغا” وكان ابني الشهيد “إدريس” قائما بجانبه وكان عليه ملابس بيضاء، وكان يبدو على قسماتهم الفرح، وقال لي الشيخ الشهيد لماذا لا تأتي عندنا؟ فتهلّلت أساريري فرحا عندما لامست أذني كلماتُ الشهيد.

ثمّ واصل: إن زوجة الشهيد عندما رأت تململي، سألتني لماذا أرسلت الشهيد للدراسة يا أبتاه؟ ثمّ لماذا سمحت له أن يحمل السلاح؟ فقلت لها: لأجل الله، ولأجل خدمة النّاس! فأجابتني بلهجة ملئها الحماسة، والرضا بقدر الله، والصبر أمام هذه الفادحة الكبرى بالنسبة إليها- إذا فلماذا هذه الدموع يا أبتاه؟ فأجبتُها: بنيّتي، لقد ربّيته بكلتا يديّ هاتين، وأنا أبوه! فيعتريني من الحزن ما يعتريني، فإنّ العين تدمع والقلب يحزن!

فقامت زوجة الشهيد بشراء الكعك والحلويات وتوزّيعها بين أطفال القرية إعلانا لرضائها بقضاء الله، وفرحتها باختيار الله لزوجَها شهيدا في سبيله.

 

حينما سمعت هذه القصة من هذا الوالد المفجوع بفلذة كبده، وهذه البطولة من هذه المجاهدة الصابرة النازلة عليها مصيبة كالجبال ثقلا، اقشعرّ جلدي، وامتلأت عيني بالدمع، فأطرقت رأسي دون أن أتمالك مدامعي، فرأيت أخا آخر يذرف دموعه بحرارة، وأخا آخر متأثرا مأخوذا، وكان صمتا عجيبا مستحوذا على البيت، وكان كلٌ واحدٍ منّا غائصا إلى ذقنه في الأفكار، ومغتبطا بهذه الأسرة الكريمة السعيدة، ومعجبا بموقف هذه المجاهدة في هذه الساعات العسيرة.

فكم من امرأة ضربت خدّها، وشقّت جيبها، وتفوّهت بما يُسخط الربّ، لثقل الفادحة التي نزلت عليها، وكم من أمٍّ أقامت الدنيا ولم تقعدها لفقد ابنٍ لها خرج مجاهدا في سبيل الله، لكن قليل من القليلات ترونهنّ يتخذنَ مواقف بطولية صابرة كمثل هذا الموقف العجيب، إنها العقيدة يا إخوان! التي تصبّر الإنسان، وتجعله يستلذّ المرارات، ويضحك على الصعوبات!

وإنّ مثل هذه النساء المجاهدات اللواتي يقفن خلف أزواجهن كالجبال فيكنّ سببا كبيرا لأن يواصلوا الطريق، وأن يقفوا في الحروب كطود عظيم لا يتزحزح.