من أخلاق المجاهد: الصبر السلاح الأمضى في مواجهة العدو

إن الصبر من الصفات الأساسية التي يجب للمجاهد الاتصاف به في جميع شؤون حياته؛ إذ بالصبر يتغلب المجاهد على مغريات النفس، وبالصبر يقاوم التحديات، ويقهر العدو، ويتحمل المشاق والمصائب، ويضع كل شيء في موضعه المناسب، وبالصبر يكبح جماح الشهوات، وبالصبر يتمكن أن يحترز جملة من الرذائل الفاشية في المجتمع كسرعة الغضب، وعدم احتمال أذى الناس، وعدم التأني والتثبت في الأمور.

فضائل الصبر

وقد مدح الله الصبر في مواضع كثيرة من القرآن يصعب علينا استقصاءها في هذه العجالة، يقول الإمام الغزالي: قد وصف الله تعالى الصابرين بأوصاف، وذكر الصبر في القرآن في نيّف وسبعين موضعا. وحسبنا بالصبر أهمية وخطورة أن أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، فقال: فَاصْبِرْ كمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ. وأما الأحاديث النبوية وآثار الصحابة والتابعين فحدّث عنها ولا حرج.

يقول الإمام الغزالي: “فإن الإيمان نصفان؛ نصف صبر ونصف شكر، وهما أيضاً وصفان من أوصاف الله تعالى واسمان من أسمائه الحسنى، إذ سمى نفسه صبوراً وشكوراً، فالجهل بحقيقة الصبر والشكر جهل بكلا شطري الإيمان، ثم هو غفلة عن وصفين من أوصاف الرحمن، ولا سبيل إلى الوصول إلى القرب من الله تعالى إلا بالإيمان وكيف يتصور سلوك سبيل الإيمان دون معرفة ما به الإيمان ومن به الإيمان، والتقاعد عن معرفة الصبر والشكر تقاعد عن معرفة من به الإيمان وعن إدراك ما به الإيمان”(إحياء علوم الدين: 7/205، ط: دار المنهاج).

مجالات الصبر وأنواعه

وللصبر مجالات كثيرة من أهمها: الصبر في طلب الرزق، الصبر في معاملة الناس واحتمال أذاهم، الصبر أمام الواجبات والمسؤوليات المنوطة بك، الصبر أمام مغريات المادية الجامحة، الصبر عن المعاصي والذنوب، الصبر في مقاومة العدو، الغلبة على الغضب والبطش عند دوافعهما، ضبط النفس عن السأم والكلل لدى القيام بأعمال تتطلب المشقة والجهد، ومنها: ضبط النفس عن تطميعات العدو، ومنها: الصبر عن تهديدات العدو وزواجره، ومنها: التزام التثبت والتأني وعدم الاستعجال والتسرع في الأمور.

شمول الجهاد جميع أنواع الصبر

إن الجهاد في سبيل الله يشمل جميع أنواع الصبر، يقول الشيخ الشهيد عبد الله عزام: “ميدان الجهاد كله صبر، صبر على طاعة الله، صبر عن معصية الله، صبر على قدر الله، صبر على نعمة الله، وصبر على طاعة الله… صبر على الملل الذي يمكن أن تعاني منه النفس…. صبر عن المألوفات والعادات”.

نماذج من صبر الأنبياء والأولياء

لقد صبر الأنبياء والرسل أمام الصعوبات التي تواجههم، والعقبات التي تعترض طريقهم، فكتب الله لهم النجاح، ومدحهم في مواضع من كتابه.

فمن روائع الصبر عند الأنبياء هو صبر إبراهيم وولده عليهما السلام على الامتحان الرباني، يأمر الله تعالى إبراهيم أن يذبح ولده إسماعيل، فيقوم إبراهيم، ويقول لفلذة فؤاده: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى فيجيب الابن بكل ارتياح دون توقف ولا تلعثم: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.

وبعد أن اجتاز سيدنا إبراهيم مراحل الاختبارات الربانية، وصبر على الامتحان الإلهي، أبدله الله تعالى بالجزاء الحسن، إلى حد أن أثناه عليه في كتابه بأنه وفّى ما كان عليه. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى.

ومن روائع صبر الأنبياء هو صبر أيوب عليه السلام حين اشتد به المرض، وطال به البلاء وتركه الناس والأهل، كيف اجتاز الامتحان الرباني بصبر واستقامة حتى كشف الله عنه الضر وفرّج عنه، ومدحه في كتابه: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكرَى لِلْعَابِدِينَ. ويقول في موضع آخر: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ.

يعقب الله تعالى بعد عرض نماذج من روائع تضحيات الأنبياء وصبرهم على المصائب بقوله: وَذِكرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ. ذِكرَى لِلْعَابِدِينَ.أي لابد للمؤمنين الذين سلكوا مسلك الأنبياء، وكافحوا الإلحاد والكفر، ووقفوا أنفسهم في سبيل قتال الجاهلية لا بد وأن يتصفوا بتلك الصفات، وأن يتلقوا دروساً وعبراً من موقف الأنبياء السديد أمام التحديات والابتلاءات.

صبر المجاهد أمام العدو من أعظم أنواع الصبر

إن من أعظم أنواع الصبر هو صبر المجاهد أمام العدو المحتل، وذلك لما فيه تعريض النفس للهلاك، وإعطاء المهجة والروح في سبيل الله، لذلك أكد القرآن على الالتزام بالصبر حينما يواجه المجاهد العدو حيث يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكمْ تُفْلِحُونَ. ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكرُوا اللَّهَ كثِيرًا لَعَلَّكمْ تُفْلِحُونَ.وفي هذه الآية تأكيد من الله على المؤمنين أن لا يتنازلوا عند القتال؛ بل يثبتوا ويصبروا ليفلحوا ويكون النصر حليفهم، أما إن فرّوا أو اختلفوا أو لم يتثبتوا ويصبروا على مرارة القتال فتذهب قدرتهم وينكل بهم العدو.

وفي موضع آخر علّق الله النصر على الأعداء على الصبر، حيث يقول: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكمْ رَبُّكمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكةِ مُسَوِّمِينَ.

فالمجاهد أحق أن يصبر ويقاوم النكبات التي تلم به من الفقر، والخوف، والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، فإن الله معه ولا يخذله حيثما كان شريطة أن لا يجزع ولا يخف ولا يستكين ولا يشكو، بل يتوجه إلى الله تعالى في كل ما ينزل به من ضر ومصيبة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وقال: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍﮥ. وقال الشاعر:

إذا ما أتاك الدهر يوماً بنكبة        

فأفرغ لها صبراً ووسّع لها صدرا

فإن تصاريف الزمان عجيبة

فيوما ترى يسرا ويوما ترى عسرا

إن حياة المجاهد مليئة بالأخطار، محفوفة بالأشواك، فهو في كفاح مستمر مع ملمات الدهر، وحوادث الزمن، ويقاسي أنواع الذل والإهانة، فقد يجوع، وقد يجلى، وقد تصادر أمواله وأراضيه، وقد يبتلى بفقد أفلاذ كبده أو أقربائه، والخلاصة إن حياته كلها مخاطر ومغامر، فحري بالمجاهد أن يتسلح في مثل هذه الظروف المأساوية بالسلاح الأمضى والأقوى تلك التي تسلّح بها الأنبياء وأولياء الله الصالحون طيلة القرون والعهود، فخرجوا من بوتقة الحوادث والنوازل ظافرين منتصرين، ألا وهي سلاح الصبر!.

وطبقاً لسنن الله الجارية في هذا الكون وقوانينه المرسومة إن البلاء ولابد أن يلمّ بحياة المجاهد، وأن يفتن المؤمن المجاهد بألوان من الفتن والبلايا، قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ. فليس أمام المجاهد إلا الصبر والاستقامة.

فالصبر سلاحك الوحيد الفتاك أيها المجاهد المناضل، ذلك السلاح البتار الذي لا تكسره دبابات أميركا، ولا قذائف الناتو، ولا تطميعات الاحتلال، ولا تهديدات الاستعمار الغاشم، فاصبر وتجلد واستقم ليقضي الله لك بالظفر والنصر ، واعلم أن الله مع الصابرين، ذلك هو وعد الله الذي يتحقق ولا بد.

ولك في رسول الله أسوة حسنة الذي صبر وصابر وجاهد وكابد أقسى ألوان العذاب والتنكيل والإهانة ثلاثاً عشرة سنة وهو مع هذا صابر محتسب يدعو ويجاهد دون أن يتنازل عن موقفه قيد شبر، ودون أن يأخذ نصيباً من الراحة أو يقرّ له قرار.

فارفع همتك وانهض وقاتل، فإنك في أعين الله تعالى، يحميك وينصرك ويعززك ويغلبك على العدو الغاشم الذي سلب وطنك، واحتل أراضيك، وتذكر عزاء الله للنبي ا إذ يقول له: وَاصْبِرْ لِحُكمِ رَبِّك فَإِنَّك بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك حِينَ تَقُومُ.