من القوة الخشنة إلی القوة الناعمة

على مدى العشریة الماضية من الحرب الدامي التي لا تزال تحترق فیها الاحتلال في أفغانستان، شهدت العلاقات الأفغانیة الأمریكیة حالتي التدهور والفشل شديدتين، تميزت حالة التدهور فيها بأنها كانت السائدة والأكثر بروزاً، ففي مؤتمر صحفي عقد أخيرا في كابول، اتَّهم حامد كرزاي الولايات المتحدة بأنَّها تعمل مع “طالبان” لتقويض حكومته والمحافظة على وضع أفغانستان غير مستقرة لتبرير بقاء القوات الأمريكية في البلاد حیث ردت علیه واشنطن وقامت برفضه على وجه السرعة، وقد كثرت تبادل الاتهامات خاصة بعد اندلاع المواجهات المسلحة بين المجاهدین “الطالبان” في كل شبر من أرض الأفغان (مما یدل علی استعداد الإمارة لاستعادة البلاد من الاحتلال )، وبین قوات الجيش العمیل.

حیث اتهم كرزای قبل أیام الولايات المتحدة والغرب (بنشر الفساد في أفغانستان من خلال عقود بالمليارات كانت تمنح لمسؤولين أفغان بهدف كسب ودهم .) وقد سمعنا في مقال له (أن الحرب التي أعلنها حلف شمال الأطلسي (الناتو) والأميركيون على الإرهاب في أفغانستان تمت “بدون رضانا”،) !!…

منذ ما بعد قیام الأمريكان باحتلال أرض الأفغان وبهدف تمثیل بروز لمتغير إقليمي جديد ممثلاً بدیمقراطیة الأميركية كقوة صاعدة على المشهد الدولي والإقليمي، والشرق الأوسط كان ثمة شيء ما غير مألوف تزامن ظهوره بمحاولة من الاحتلال مع حكم هذه الجماعة العلمانیة في أفغانستان، ألا وهو مبدأ تصیير الشعب الأفغاني نحو العلمانیة بمساعدة من المیلیشیات اللذین تحسبهم الاحتلال بمثابة حبات اللقاح أو الإخصاب لإجراء الدیمقراطیة العلمانیة.

فعلى امتداد أكثر من أحد عشر عاماً من عمر هذه الحرب “الظالمة” تعیش السلطة الأفغانیة العميلة في حالة من الخصومة غير المعلنة مع بیئتها الإسلامي كلها، حیث ساعدت الاحتلال في انفجار حرب طاحنةً مع الشعب الأفغاني وإحیاء أحزاب معادیة للشریعة من بقایا الشيوعيين وعلاقة حميمة غیر مريبة مع الاحتلال وبث الخلافات الطائفیة.

أما علاقة الأمريكان بالحكومة العمیلة فلم تكن سوى إتباع طبيعي من النظام العمیل للاحتلال حين الحرب وهذه العلاقة القوية وصلت إلى مراحل متقدمة تمثلت في وقوف كرزای وأصحابه ودعمهم المباشر للاحتلال في حربها الضروس مع المواطنین الأفغانیین.

أسالیب الحرب الناعمة

إن السياسة الأمریكیة بذلت جهوداً كبيرة لنشر الأفكار المسیحیة والعقائد التي تسمح للاحتلال التدخل فيما لا شأن لها به، وتبرر لها ما اقترفت من الجرائم ضد الأبریاء في طوال احتلال أفغانستان عبر استقدام بعثات طلابية أفغانیة إلی أوروبا.

« فقد تأسست الجامعة الأمريكية في كابول في عام 2004، من قبل كبار رجال الأعمال وأعيان وعلمانيين أفغان، وتشترك مع المؤسسات التعليمية في المرحلة الجامعية، الدراسات العليا ومناهج التنمية المهنية، الجامعة تجذب الطلبة من البشتون والهزارة والأوزبك والطاجيك والتركمان وغيرهم الكثير، مما يهيئ البيئة لقبول أفكار التعايش والسلام بالمفهوم الأمريكي بين جميع شرائح المجتمع الأفغاني، في مايو 2011 تخرجت أول دفعة من الجامعة، وعددها 32 طالبًا: 9 نساء و23 رجلاً، مع منحتين دراسيتين بأمريكا، وفي عام 2012، تخرج 52، مع 6 منح دراسية»، وإقامة جماعات تبشیریة والعلمانیة.

لذا عقب احتلال أرض الأفغان، بدأت عملية الاستقطاب والتجنيد للمشروع الصلیبي في أفغانستان بشكل أكثر وضوحاً، وذلك بتجنيد واستقطاب شباب وناشطين وتسفيرهم خارج أفغانستان تحت لافتة تعلیم وإقامة مؤتمرات وورش عمل وندوات يستدعى لها عدد من الناشطين الشباب والأكاديميين ولاسیما مشايخ القبائل وغيرهم للحضور إلى واشنطن أو مكان آخر وحتی في أرضهم، وكان في كل مرة يتم اختيار مجموعة منهم وتأهيلهم لما بعدها من دورات إعلامية أو أمنية أو عسكرية أو سياسية لصالح الولایة.

لكن بنصر من الله تعالی تأثيرات هذه الأساليب لم تكن كبيرة.

التمدد الأمریكي من خلال الحرب الناعمة

لم يكن التمدد الأمریكي في أفغانستان وليد لحظة ما متأخرة بقدر ما كان وليد تراكم لمحاولات سابقة عديدة للاختراق والتواجد على البلدان الإسلامیة، بدافع مبدأ تصدير المنافع الأمريكي وبسط أمنها في الشرق الأوسط بحجج واهیة التي لم تكن سوى غطاء للإستراتيجية الأمریكیة القائمة على السيطرة ومد النفوذ في البلاد العربیة وأفغانستان تحديداً.

لكن المحاولات الأمریكیة في الحالة الأفغانیة في كل مرة – وخاصة منذ قيام المجاهدین بشن عملیات الربیع الأفغاني –لا تزال تخفق في تحقيق كل أهدافها، لأسباب عدة في مقدمتها تمايز حالتي الأفغانیة؛ الشعب الأفغاني والعمیل، نظراً لما بينهما من عداء سبّبه العملاء ببرامجه السخيفة وتحيزه للاحتلال وصل إلى درجة یقوم الشعب ضد العملاء ویدحره ولا یفارق بین من احتل أرضه وبین من ساعد الاحتلال.
وكما أسلفنا أن الاحتلال بذلت جهود كبیرة في بث سیطرتها علی أفغانستان لإحباط المجاهدین وقامت بإجراء أسالیب شتی لكن تأثيرات مثل هذه الأساليب لم تكن كبيرة بحكم تدين الشعب وتعامله مع المجاهدین وعوامل أخرى تاريخية واجتماعية مما لم تساعد الاحتلال في تحقيق كل أهدافه.

عناوين مخططات الأمریكي

ومع توقيع المبادرة الأمریكیة بشأن انتقال السلطة للمیلیشیات، بدأت تظهر بقوة ملامح هذا التغلغل الأمریكي أكثر من قبل بتمويل عدد من الأحزاب الديمقراطية، مثل (جبهه ملي، جنبش – نهضة- ملي) عدا عن تمويل عدد من وسائل الإعلام ما بين صحف وقنوات فضائية كتلك التي تم إطلاقها بالتزامن مع إطلاق قنوات الإخبارية اجتماعية مثل (طلوع- شمشاد – راه فردا) حيث تبث جميعها من أفغانستان، قنوات تابعة لجماعة العملاء ذات الصبغة “غير الشرعیة”.

ولم يقتصر دعم الأمریكان لحلیفها فقط على الجانب الإعلامي، بل تعدى الأمر إلى تمويلهم مالياً وتزويدها بالسلاح والتدريب عبر مدربين من حلف الناتو، حيث تشير بعض المعلومات أن الاحتلال جعل هذه الركیزة من مهام أموره حیث تم تدريب أعداد كبيرة من الأفراد التابعين لجماعة كرزای أو من أنصار الحراك الإحتلالي طوال الحرب.

ویأتي في هذا الإطار القوات القادمة من الغرب المحملة بكميات كبيرة من الأسلحة الثقيلة والمتطورة، وإن تلك الأسلحة كانت متوجهة إلى الشعب، دليلاً كافياً على مدى التورط الأمریكي في الحرب في أفغانستان خلال هذه المعركة، عدا عن الاتهامات المتكررة للأمریكا من قبل كرزای في أكثر من مناسبة.

مما تدل بوضوح علی هذا التورط.

وعلمت الأمریكان أن التأثیر علی الأفغانیین لا یمكن إلا من خلال الأفغانیین ولذلك حاولت ولا تزال تفعل ذلك أن تجعل العملاء كقوة تريد أن تظهر دورها الإقليمي في المنطقة- للتمدد والتأثير الإحتلالي على كافة المجريات في أفغانستان، «سیاسة المؤامرة بالوكالة» فعملوا بكل طاقتهم من أجل أن لا تفوتهم فرصة ثمينة (فرصة تقدمها لهم العملاء) لعلها تمكنهم بدعم من العملاء انعدام وجود إستراتيجية واضحة المعالم لدى خصومهم أعني المجاهدین.

مدی علاقة العملاء والاحتلال في الحرب الناعمة

العلاقة القائمة اليوم بين الاحتلال والعملاء وإن كانت علاقة حمیمة لكنها مشروطة بسیطرة الاحتلال علی أفغانستان حیث لا یسمع فیها صوت سنابك خیول الجهاد.

ومثلما وجدت أمریكا كرزای ومن والاه بصورة فرصة ثمينة لتحقيق مصالحها الإستراتيجية، فقد وجدها العملاء والأحزاب المعارضة للشریعة والشعب المؤسسة من قبل السوفیات أيضا فرصةً أثمن يحاولون من خلالها تحقيق حلمهم في الحكم، وإعادة ترتيب أوراقهم عبر البحث عن حلفاء لهم، وهو ما كشف عن سعيهم الحثيث للتحالف مع الأمریكیین والالتحاق بقوات محلیة .

وهنا بدأت عملية الاستقطاب والتجنيد للمشروع الأمريكي في أفغانستان بكل أنواع الدعم والتمويل المالي والتدريبي والإعلامي.

وترتكز الإستراتيجية الأمریكیة في دعمها لفصيل البيض بالمال والسلاح، وتدريب عناصره على إستراتيجية الفوضى الأمنية لعرقلة جهود الاستقرار في أفغانستان، ليتمكن حلفاؤهم العملاء من التمدد المسلح على الأرض وكسب مزيد منها.

بل الأهم بالنسبة للإستراتيجية الأمریكیة هو موقع أفغانستان في خاصرة الحركة الجهادیة التي يسعى العملاء لتطويقها وتمدد النفوذ الأمریكي فيها بفعل المیلیشیات الحاكمة.

ولكن كثیرا من العملاء لا يزالون يشعرون بالإحباط بشكل متزايد بسبب ما تقوم به الولايات المتحدة من أعمال تعود بالضرر على المدنيين وتقوض سيادتهم؛ «ففي بيان مشترك صدر في يناير عام 2013، أعاد أوباما وكرزاي التأكيد على التزامهما المشترك لدفع عجلة السلام وتعزيز المؤسسات الأفغانية الديمقراطية وإقامة دولة آمنة ومستقرة بمقدورها التطور اقتصاديًا واجتماعيًا»!!…

و سمعنا عن كرزای قبل أیام أنه قال (وأن رؤساء الحلف الأطلسي ارتكبوا خطأ فادحا؛ لأن الإرهاب لم يكن في بلادنا).

وحینما سئل عن وجود الحركات الجهادیة ووجودها في أفغانستان قال: (- نقلا عن المسؤولين الأميركيين- أن وجودهم ضئيل جدا في بلاده ولا يتجاوز عددهم بضعة أفراد) وقال هذا وهو لا ینكر وجود المجاهدین من الطالبان بل یرید أن یقول أن الطالبان لیسوا من المتطرفین ولكنه لم یبین الجماعة الضئیلة .

وكثیراً ما یقترح كرزای لتطمیع الطالبان الترشیح للرئاسة وتولیة القضاء وغیرها من المناصب مما یدل علی فشل الاحتلال في ساحة النضال واللجوء إلی تغطیة خسائره من خلال التطمیع والمخادعة ولا يخفى على كثير من الباحثين أن سبب هذه المحاولة الكبيرة والمحمومة لدى الجماعة الطائفية لتطمیع المجاهدین ،-ومن ثمة مواصلة الانتشار والتمدد بالقوة والسياسة للأمریكان- هو دخول العامل الخارجي الأمریكي بقوة في هذه المحاولة بالذات، ـ وهو الدور البشع الذي لا يخفى وجوده على الشعب الأفغاني ـ ، ومن خلال حالة الانفتاح والدعم الكبير الذي تتمتع به العملاء على أكثر من صعيد، رغم حداثة نشأتها نسبياً.

لاغرو أن العلاقة القائمة اليوم بين أمریكا وجماعة العملاء علاقة سياسية ترتكز على تحقيق مصالح الطرفين وإن كان للاحتلال حظ أوفر، بينما لا يخفى علی أحد مدى اتساق ذلك مع الإستراتيجية الأمریكیة في التمدد والانتشار من خلال جيوب المیلیشیات لاستخدامها كأوراق سياسية في وجه خصومها ومنافسيها الإقليميين والدوليين.

الحالة السیاسیة للاحتلال في الحرب الناعمة

ما يميز الحالة السياسية الأمریكیة جيداً في أفغانستان هو إستراتيجيتها القائمة على نوع من الحالة المفرطة في تعاملها مع كل الظواهر والأحداث والأشخاص والأحزاب ومن یطوف حولها، كی يتم تسخير كل شيء تباعاً لمرتكزات تلك الإستراتيجية القائمة على تحقيق المصالح الأمريكية بأی شكل أو ثمن كان، فالمجتمع الأفغاني لم يخضع يوماً لحكم المحتلین والعملاء حتی في فترة تاريخية قصيرة وعابرة ، بينما یرزح تحت حكم الاستعمار الإحتلالي لما يزيد عن أحد عشرة عاما.

وإن الحرب بين طرفي الاحتلال والحركة الشعبية الجهادیة أدت إلی ضغوط هائلة‌ علی من كان علی كرسي الحكم لأنهم لم یكونوا یحبون ولم یكونوا یتوقعون أن یقاوم الشعب حتی نهایة المطاف تجاه‌ آلیات الناتو، وإن تعامل سياسات أمریكا أرض الأفغان كأرض محتلة مورست فيها كل أنواع الظلم والفساد في حق أبناء الشعب بات دون فائدة، وهذا ما یؤدى بعد ذلك إلى تفجر قوة شعبية فتاكة ضد نظام أمریكا والعملاء في أفغانستان.

وتتطورت مطالب هذه المقاومة الشعبیة في وجه القمع وعدم الإصغاء، من مطالب حقوقية إلى مطالب سياسية متباينة بين التورط الدیمقراطیة.

وقد تفهم الشعب الأفغاني في كل أرجاء أفغانستان شمالاً وجنوباً حیث وجدوا أنفسهم في خندق واحد مع إخوانهم المجاهدین ضد المحتلین، ولا مخرج من هذا الخندق إلا بعد المقاومة ضد نوایا الاحتلال .

أفغانستان في الإستراتيجية الأمریكیة

موقع أفغانستان الإستراتيجي والتماثل الطائفي هما ركائز الإستراتيجية العملاء تجاه أفغانستان، والتي تزداد أهمية لدى العملاء كلما اقتربت لحظة هروب الأمریكان منها، حليفها الأبرز ورئیسها الأقوى.

فقرب أفغانستان الجغرافي بالصین وإطلالها على أهم موارد الطاقة في العالم كل هذا في حسبان الإستراتيجية الأمریكیة.

ولكن كل هذا محاولات دون جدوی إذا شعرت الحركة بخطورة تلك المحاولات وأخرجوا أفغانستان من السلة الأمریكیة. وقامت برأب الصدع المفروض لأنهم إذا لم يروا غضاضة في تقاسم النفوذ والمصالح مع أي قوى لمد نفوذها هنا أو هناك، فسوف تزيد في خطورة نفوذ العملاء أو المحتلین في أرض المجاهدین لغياب أي إستراتيجية مقابلة لها.

فالأمريكان لا يرغبون في تطوير أفغانستان ولا مدينتها، ولا یشفقون لشعبها المنهوك بل يريدون تخريج جيل أفغاني جديد یساعد الأمریكان في مخططاتها، ويغير من تركيبتها ويسلخها عن هويتها وقوميتها، بالصورة التي تتماشى مع المصالح الأمريكية في المنطقة، جيل يجمع بين الجنسية الأفغانية والعقلية الأمريكية، لونه ولسانه أفغاني، وتفكيره وقراره ومنهجه أمريكاني.